من منا لا يريد المال ويسعى جاهداً في طلبه؟ ولكن هل
الرزق هو المال فقط أم هناك أرزاق أخرى؟ هل نمتلك أجمل الأرزاق التي تنفع النفس والأبناء
في الدنيا والآخرة؟
خلقنا الله جميعا من نفس واحدة وقسم الرزق على عباده،
فالله يكتب للإنسان رزقه وهو في بطن أمه ومنذ ذلك الوقت، اعلم انه لن يستطيع أحد أخذه
أو سلبه منك. وعلى الرغم من وضوح النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة عن
الرزق، إلا أن الأنسان دائما ما يشغله المال اعتقادا منه بأن رزقه ينحصر في شيء
واحد فقط وهو المال، فالمال من الأرزاق التي أعطاها الله للإنسان ولكنه ليس كل شيء.
ما
هو الرزق الجميل؟
وقد لخص ابن الجوزي رحمه الله ذلك في قوله: فلا تجعلوا
فهمكم للزرق يتوقف عند حدود المال والبنين، بل إن أجمل الأرزاق سكينة الروح ونور
العقل وصفاء القلب وسلامة الفكر، وإن من أجمل الأرزاق دعوة أم، ورضا أب، وصحبة
طيبة.
الحقيقة إن قول رسول الله صلي الله عليه وسلم جمع هذه
الكلمات وأكثر منها في قول بليغ "من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده
عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
الغالبية منا يسعى لطلب المال، لكن عندما تضيع الصحة في كسب
المال فلا يغنيه بعد ذلك المال.و العجب أن تجد الإنسان يفنى صحته ووقته وسعادته
ويضحى بالثمين والغالي في حياته طمعا في كسب المال، ثم بعد أن يفقد صحته، ينفق ما
اكتسبه من هذا المال ليستعيد صحته مرة أخرى، ولكنه يجد الأوان قد فات!
شيء غريب أن تُفنى كل النفائس من صفاء النفس وطمأنينة
القلب وقضاء الوقت مع الأهل والأحباب لكسب المال، ثم ينفق المال في طلب الصحة
والشفاء من الأمراض في نهاية العمر ثم يخرج الإنسان خاوى اليدين! وفي خضم طلبه
للرزق وسعيه لكسب المال وتأمين مستقبله ومستقبل أبنائه، وبعد أن ينال منه الهرم وتضعف
صحته، يدرك أن الرزق ليس الطعام والشراب والمسكن والملبس، ولكنه ارقي من ذلك، فهناك
أرزاق لا تقدر بمال.
أرزاق
أهم من المال
يري البعض أن المال قد يكون سببا لرفعة أبناءه في
الدنيا، وأن كسب المال والاهتمام بالمأكل والمشرب، وخلافه من متاع الدنيا، دون
الاهتمام بالأخلاق والعلم، مع أنه هو السبيل الذي يضمن الحياة الطيبة السعيدة التي
تأمن مستقبله ومستقبل أولاده من بعد وفاته.
بالطبع كلا، فلا يمكن إنكار أهمية المال، ولكن الاهتمام
بالمال والرعاية الجسدية وحدهما، وعدم رعايته لأخلاق أولاده، تترك الأبناء على محك
شديد وتحد صعب. بل إن مصلحته هو شخصيا ليست في جمع المال فقط، فلا يكون المال
بمفرده سببا في دخول الجنة، فيحاسب المرء بمفرده على المال يوم القيامة، وإما أن
يكون سببا في دخوله الجنة أو سببا في دخوله النار. لذا، فأشد ما يحتاجه الإنسان
بعد وفاته هو بر الأبناء له بالدعاء، فلا يكون له ذلك إلا بضمان نشأتهم نشأة طيبة،
كي يدعون له بعد وفاته.
نعم الإنسان في اشد الحاجة إلى أبناءه بعد مماته أكثر
منها في حياته. فولد صالح يدعو له خير من مال الدنيا. وربما يكون المال نقمة
يلهيهم عن ذلك، ويحاسب هو عليه في الأخرة، من أين اكتسبه وفيم أنفقه، مصدقا لحديث
نبي الله صلي الله عليه وسلم في ذلك الأمر. فيتمتع به الأبناء ثم يحاسبون أيضا على
إنفاق المال، إن كان في غير موضعه، فيكون بذلك قد ضيع نفسه وأبناءه. لذلك فالرزق
لا يقف عند المال فقط. فليس للمرء من رزقه إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلي ثم لا
يتبقى له في الأخرة إلا ما أنفقه في سبيله سبحانه وتعالي. فالرزق ليس في أموره
المادية وفقط ولكنها تشمل أيضا أمورا معنوية كثيرة أهم من المال.
هذه النظرة الخاطئة سببها للأسف الشديد البعد عن الدين
والاهتمام بالأمور الدنيوية، والقلق على كسب العيش ورزق الغد. ولكن كفي أن تقرا
قوله تعالي: قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ
لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن
يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ (آل عمران:37). فالله يرزق الجميع بلا استثناء. ولكن ما أروع أن يرزقك
الله شيئا مختلفا عن باقي البشر وهو رزق القلوب كالعلم وحب الناس والبعد عن
المعاصي. هذا الرزق المعنوي الذي يستهان به هو الباقي وهو رزق لا ينفد، وحسبنا
قوله تعالى: مَا
عِندَكُمۡ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٖۗ وَلَنَجۡزِيَنَّ ٱلَّذِينَ
صَبَرُوٓاْ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (النحل:96).
بقلم: إيمان محمود
ليسانس الدراسات الإسلامية والعربية – جامعة الأزهر
تعليقات
إرسال تعليق