التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نعمة اسمها المخلفات


قد يبدو الأمر غريبا للوهلة الأولى، وقد ولا يحتاج لطرح موضوع كهذا. ولكن قبل أن نتسرع في الإجابة دعنا نتتبع أصل المشكلة منذ البداية ثم ليكن بعد ذلك الامر ما يكون.

ففي بداية حياة الإنسان على هذه الأرض حيث كانت المجتمعات صغيرة ومحدودة كان الإنسان يتخلص من مخلفاته في نفس المكان الذي يقطنه ٍويعيش فيه، وبالطبع فإن هذه المخلفات التي يتركها الإنسان حوله في هذا المجتمع الصغير كانت تمثل مشكلة، إلا أنها لم تكن مشكلة عويصة نظراُ لأن هذه المجتمعات الصغيرة لا ينتج عنها هذا الكم الضخم من المخلفات ­– كما في عصرنا الحالي- حيث كان يكمن الحل وبمنتهى البساطة في الرحيل من هذا المكان إلى مكان جديد ونظيف!!! ثم سرعان ما تهب الطبيعة الأم لإعادة تدوير هذه المخلفات وتحليلها والتخلص منها لتعيد البيئة إلى ما كانت عليه وبمنتهى السرعة والكفاءة. لذا كانت البيئة كلها أشبه بمحمية طبيعية كبيرة، وكان يمكنها أن تتغلب على ما يعتريها ويؤرقها من ملوثات. ولو توقف الأمر عند هذا الحد لما كانت هناك مشكلة ولما احتجنا لطرح هذا السؤال السابق ولما احتجنا إلى كتابة هذا المقال أصلاُ.  ولكن عندما عرف الإنسان الزراعة والصناعة وبالتالي الاستقرار الدائم، وأصبح تعداد المجتمعات كبير وازداد كمية المخلفات الناتجة عن نشاطات الإنسان المتعددة وازداد العبء وأصبح فوق طاقة الطبيعة، وأصبح من غير الممكن أن يتحرك الإنسان لموطن جديد، هنا أصبح الإنسان غير قادر على الهروب من مخلفاته حيث لم تسعفه الطبيعة الأم في إعادة تدوير هذه المخلفات والتخلص منها كسابق عهدها. هنا أدرك الإنسان أن هناك مشكلة اسمها "المخلفات" وكان عليه أن يجد لها حلاُ إلا أن رد فعله كان أقل بكثير من هذا الكم الضخم من مخلفاته. لذا تفاقمت تلك المشكلة شيئاُ فشيئاُ حتى وصلت إلى ما هي عليه في عصرنا الحالي. والإنسان ومنذ بداية ظهور هذه المخلفات وهو في صراع دائم معها للتخلص منها بالهروب تارة وبالحيلة تارة والمحاولة تارة أخرى وحتما كان يكسب بعض الجولات إلا أن الآكد أنه كان يخسر أغلب هذه الجولات. وليس أدل على ذلك من هذه الكميات الهائلة من المخلفات التي لا يكاد يوجد مكان على ظهر الأرض يخلو منها.

وبالإضافة لكون هذه المخلفات تمثل خطرا داهما على البيئة فإنها أيضا تعد مأوى للمسببات المرضية للنبات والإنسان والحيوان علاوة على التلوث بأنواعه الناشئ عن تراكم هذه المخلفات بصورة مؤذية.

وعلى سبيل المثال تشير الدلالات إلى أن مقدار المخلفات الزراعية في مصر يصل إلي 25 - 30 مليون طن سنويا، منها 4 مليون طن تمثل مخلفات قش الأرز وحده. وبالرغم من أن حرق المخلفات الناشئة عن قش الأرز أو إلقائها على حواف الترع والمصارف الوسيلة الأكثر شيوعا واستخداما في مصر، إلا أنها لا تعد الطريقة المثلي للتخلص من قش الأرز، بل ويعد ذلك إهداراُ لثروة كبيرة يمكن استخدامها ليس في أوجه مفيدة وفقط بل وأيضا في زيادة الدخل القومي ذلك لما لها من مردود اقتصادي كبير حال ما أحسن استخدامها.

وان كنا نتحدث عن المخلفات الزراعية أو حتى غيرها من المخلفات كمشكلة تؤرق العديد من المهتمين بالبيئة والمجالات الأخرى أضف إلى ذلك أنها أصبحت تشغل حيزاُ غير قليل من الوسائل الإعلامية في الكثير من البلدان النامية فان الوضع يختلف تماما في الدول الأخرى الأكثر تقدماُ حيث لم تعد تمثل المخلفات مشكلة بأي حال بل أضحت مدرجة ضمن الموارد الاقتصادية لهذه البلدان حيث بعد تجميع وتصنيف هذه المخلفات يتم إدراج كل نوع منها في الصناعة التي تناسبها. لذلك فلا عجب أن نسمع ونري تلك المنتجات المصنعة من مخلفات أعيد تدويرها بتكاليف زهيدة جداُ.

وقد فطنت مصر إلى ذلك أيضا في الفترة الماضية وأصبح هناك اهتماماُ كبيراُ لاستخدام هذه المخلفات في أغراض مفيدة مثل السماد العضوي والبيوجاز والأعلاف غير التقليدية والصناعات الخشبية الصغيرة وغيرها.

كما يشمل إنتاج المواد الحيوية من المخلفات أحد أهم الجوانب في هذا الصدد حيث يتم إنتاج المواد الحيوية ذات الأصل الميكروبي بعد تنمية الكائنات الحية الدقيقة على المخلفات وتخميرها بإتباع أساليب معينه لتعطي في نهاية عملية التخمير هذه مركبات حيوية هامة جدا مثل الإنزيمات والمضادات الحيوية والهرمونات والبوليمرات الحيوية والكثير من المواد العضوية المستخدمة في شتي الصناعات والمجالات.

وان كنا نشير هنا إلى الكائنات الحية الدقيقة على اعتبار أنها تمثل الأداة التي تقوم بدور الوسيط في تحويل المخلفات إلى مواد حيوية هامة، ذلك أن هذا الدور هو نفسه التي تقوم به الميكروبات في الطبيعة وبشكل تلقائي، ولولا ذلك لغطت سطح الأرض أطنان وأطنان من المخلفات والجثث الآدمية والحيوانية والبقايا النباتية وغيرها في أيام قلائل، ولما عادت تلك المخلفات إلى مكوناتها الأولية بعد عملية التحلل بهذه الكائنات. ذلك فان دورنا هنا هو أن نمهد الطريق والظروف المناسبة لهذه الكائنات الحية الدقيقة لتقوم بدورها هذا تحت إشراف الإنسان بما يوفر متطلباته ويحقق آماله ويتناسب مع مصالحه.

نظرة عامة على المخلفات: -

بعد التطور المضطرد في الزراعة والصناعة وما صاحبه في زيادة الإنتاج تبع ذلك زيادة في كمية المخلفات، وواكب ذلك أيضا زيادة في الاهتمام بمشكلة المخلفات الزراعية منها والصناعية.هذا وتعد كمية المخلفات الناتجة عن النشاط الزراعي اكبر بكثير من حيث الكم من تلك المخلفات الناتجة عن النشاط الصناعي لذلك تتوجه الأنظار في ظل ظروف زيادة المخلفات النباتية إلى الطرق المثلى للتخلص منها دونما إضرار بالبيئة وذلك بإعادة تدويرها بيولوجيا وتحويلها إلي منتجات نافعة وذلك حتى نتفادى المشاكل الجمة الناتجة عن سوء التخلص منها وليس أدل على ذلك من السحابة السوداء التي تظللنا كل عام من جراء حرق قش الأرز بعد حصاده.

والمخلفات الصناعية وان كانت اقل في الكمية مقارنة بنظيرتها الزراعية إلا أنها تفوقها خطرا على الصحة العامة والبيئة ذلك أن هذه المخلفات الصناعية تحتوي علي العديد والعديد من العناصر الثقيلة والتي لا يخفي أثرها الضار على غير المتخصصين فضلا عن المختصين. لذلك تتم المعاملات البيولوجية لهذه المخلفات للتخلص من الأثر الضار لها ويتم ذلك على مراحل تختلف هذه المراحل تبعا لنوع وتركيب المخلف حيث تتم المعاملة الأولية للمخلفات وذلك عن طريق تجميعها وتصنيفها وتوجيه كل نوع إلى ما يناسبه وقد يتطلب الأمر عمل تكسير أو تقطيع إذا كانت ذات أحجام كبيرة أو تعديل تراكيبها الكيماوي بإضافة بعض المواد حتى تشجع نمو الميكروبات عليها ثم يلي ذلك اختيار الميكروب المناسب الذي يتلاءم مع نوع المخلف المستخدم ويجب أن تتوفر شروطا في الميكروب المستخدم مثل أن تكون سلالة الميكروب قويه وسريعة النمو وذات قدره ونشاط عالي في استخدام وتحليل المخلف وأن تكون ثابتة من حيث التطفر بحيث لا يحدث لها تغير في خصائصها الوراثية أثناء تنميتها على المخلف كذلك يجب الأخذ في الاعتبار ألا تكون هذه السلالة الميكروبية ممرضه أو تفرز سموما حتى لا تزيد الأمر سوءاُ ويزداد الطين بللا.   وفيما يتعلق ببيئة التنمية (المخلف) فيشترط فيها أن تتوفر بشكل دائم حتى لا يتوقف عملية التخمير ويتوقف الإنتاج فكما قلنا من قبل أن استخدام المخلفات قد أصبح ركيزة لعملية إنتاجية مستمرة في الدول المتقدمة وعدم توفر المخلف يؤدي بطبيعة الحال إلى وقف أحد عوامل الإنتاج مما يؤثر على العملية الإنتاجية وبالتالي الخسارة الحتمية. لذلك فلا عجب أن تشيد مصانع كاملة بالقرب من أماكن تراكم المخلفات حتى تضمن لنفسها الإمداد المستمر من مادتها الخام وتقلل تكاليف النقل. بعد الحصول على الميكروب والبيئة المناسبين يتم التحضين الميكروبي مع المخلف في مخمرات ضخمة مع توفير الظروف المناسبة لنمو ونشاط الميكروبات كتلك التي تتواجد في بيئتها الطبيعية حيث يتم ضبط درجة الحرارة والرطوبة والضغط الأسموزي والإضاءة وتركيز ايون الهيدروجين والتهوية إلى الدرجة التي تناسب نمو الميكروب المستخدم وقد يتطلب الأمر في بعض الأحيان إمداد بيئة النمو المستخدمة (المخلف) ببعض المواد التي تشجع وتدعم نمو وتكاثر خلايا الميكروب. وفي نهاية عملية التخمير نلاحظ أن الناتج من هذه العملية لا يكون متجانسا من حيث المكونات ولكنه يحتوي على مخاليط من العديد من المواد التي أنتجها الميكروب نتيجة نموه على المخلف إلا أن النسبة العظمي من المخلوط غير المتجانس تكون لهذا المركب الحيوي المراد الحصول عليه والتي تم تهيئة الظروف لإنتاجه بأقصى كميه. فبعد عملية التخمر يتم عمل استخلاص وتنقيه للمركب المستهدف حيث تجري عليه بعض الاختبارات الأولية ثم تجربته على الحيوانات تمهيدا لاستخداماته التالية.

أمثله على إنتاج المواد الحيوية:

من أمثلة ذلك إنتاج حامض الستريك من المولاس الناتج عن صناعة السكر حيث يستخدم فطر العفن الأسود في هذه العملية، كما يمكن إنتاج إنزيم البيتاجلاكتوسيديز من شرش اللبن المتخلف أثناء تصنيع الجبن بتنمية بعض أنواع الخمائر عليه كما يمكن أيضا استخدام هذا الشرش في إنتاج حامض الاكتيك وذلك باستخدام بعض ميكروبات اللبن وبعد عملية الإنتاج واستخلاص الحامض يمكن استخدام البروتين الناتج من عملية التخمير كعلف حيواني.

وبعد.... فهل لي أن أسأل هل المخلفات نعمة أم نقمة؟ هل هي نعمة أنعم الله بها علينا أم نقمة ابتلانا الله بها؟ وأترك لك الآن الإجابة بعد أن أوضحنا ما يحتاج إلى توضيح، وإن اخترت أنها نقمة فاعلم أن العيب ليس في المخلفات ولكن فيمن لا يحسن استخدامها.


ا.د. وسام الدين إسماعيل
أستاذ الميكروبيولوجي - معهد بحوث الأراضي والمياه والبيئة - الجيزة - مصر


تعليقات

  1. نعمة جهلناها وكان لها السبق في كشف مستورها وتحدياتها لنا من كل جانب حيث تمثل عنصر اساسي ومهم وفي غاية الاهمية لاكتمال دورة حياة ماتفيأناه منها من خيرات اكسبنتا القدر الكافي من الطاقة لتدفع باستمرارية الحياة بكافة الطرق والوسائل

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشار أو الزعتر الإسباني

أنصح بزراعة هذا النبات في شُرفة كل بيت. إنه الشار نبات عشبي معمّر من العائلة الشفوية التي تضم أيضًا النعناع والزعتر والمريمية والريحان وهو نبات من أروع النباتات وأكثرها قيمة غذائية وطبية وهو من النباتات الطبية والعطرية السهل جداً زراعتها في شرفة المنزل والاستفادة منها مباشرة. اسمه العلمي Plectranthus amboinicus   وأوراقه بيضاوية سميكة وعصارية هشة ولها رائحة عطرية طيبة ينمو بسرعة ويتشعب كثيراً ويمتد في الأرض ويصلح أن يكون من النباتات المتدلية له تسميات كثيرة منها الزعتر الإسباني، الزعتر الفرنسي، النعناع المكسيكي، لسان الثور الهندي، الأورجانو الكوبي، زهرة الغمد العطرة وهو يختلف عن الزعتر البلدي المعروف وهو ينبت في الطبيعة في جنوب السعودية وفي اليمن ويسمونه الشار ويزرع بشكل واسع في بلاد الهند وفي جنوب شرق آسيا ويستخدم في الطهي في منطقة البحر الكاريبي والهند وماليزيا، كما ينمو في المناطق شبه المدارية أو المعتدلة الدافئة بما في ذلك نيبال وسريلانكا وبورما واجزاء من شرقي أفريقيا، ويزرع أيضا كنبات للزينة لرائحته الطيبة وحالياً يزرع بشكل واسع في إقليم جوجارات بالهند من أجل استع...

الرزق الجميل – هل هو المال؟

من منا لا يريد المال ويسعى جاهداً في طلبه؟ ولكن هل الرزق هو المال فقط أم هناك أرزاق أخرى؟ هل نمتلك أجمل الأرزاق التي تنفع النفس والأبناء في الدنيا والآخرة؟ خلقنا الله جميعا من نفس واحدة وقسم الرزق على عباده، فالله يكتب للإنسان رزقه وهو في بطن أمه ومنذ ذلك الوقت، اعلم انه لن يستطيع أحد أخذه أو سلبه منك. وعلى الرغم من وضوح النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة عن الرزق، إلا أن الأنسان دائما ما يشغله المال اعتقادا منه بأن رزقه ينحصر في شيء واحد فقط وهو المال، فالمال من الأرزاق التي أعطاها الله للإنسان ولكنه ليس كل شيء. ما هو الرزق الجميل؟ وقد لخص ابن الجوزي رحمه الله ذلك في قوله: فلا تجعلوا فهمكم للزرق يتوقف عند حدود المال والبنين، بل إن أجمل الأرزاق سكينة الروح ونور العقل وصفاء القلب وسلامة الفكر، وإن من أجمل الأرزاق دعوة أم، ورضا أب، وصحبة طيبة. الحقيقة إن قول رسول الله صلي الله عليه وسلم جمع هذه الكلمات وأكثر منها في قول بليغ "من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها". الغالبية منا يسعى لطلب المال، ...

تطوير العقول ... الزراعة كمثال!

كان من أهم إنجازات الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت (1882-1945م) هو استصدار قوانين جديدة لتحقيق الاستقرار في النشاط الزراعي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك خلال ولايته الأولى كرئيس للبلاد والتي امتدت من 1933م حتى 1938م. القانون الأول حيث عَمِل القانون الأول على تخفيض فائض المحاصيل الزراعية، بمعنى ألا يُزرع محصول ما إلا بقدر يتناسب مع الاحتياج إليه؛ بهدف رفع سعر المنتج بحيث يباع بسعر عادل يحقق دخلا مناسباً للمزارع مع تقديم إعانات مالية للمزارعين تعويضاً لهم إذا تعرضوا للخسارة! وعلى الرغم من أن هذه الفكرة قد لاقت سخرية ومعارضة شديدة في البداية، إلا أن هذا القانون الذي تحول إلى برنامج قومي نُفذ بإرادة حديدية؛ تسبب في زيادة الدخل القومي من الزراعة، بل وتحسين أحوال المزارعين بشكل كبير وملموس، ومنع هجرة المزارعين لأراضيهم، بما ساهم بعد ذلك في حالة رخاء غذائي لعموم الشعب الأمريكي وإنقاذ النشاط الزراعي في البلاد بعدما كانت تعاني من العشوائية في الإنتاج الزراعي! القانون الثاني أما القانون الثاني، فعمل على تحقيق استقرار الدخل الزراعي، عن طريق دفع قروض للمزارعين لتخزين الفائ...